إغلاق الجزيرة برام الله- تكميم الحقيقة أم ضم الضفة الزاحف؟

المؤلف: فايد أبو شمالة10.10.2025
إغلاق الجزيرة برام الله- تكميم الحقيقة أم ضم الضفة الزاحف؟

المشهد الذي تجلى أمام أعيننا، والذي شهده العالم عبر شاشة الجزيرة في سكون الليل وقُبيل تباشير الفجر، لابد أن يبقى راسخًا في الذاكرة، موثقًا بكل تفاصيله الدقيقة، لما يحمله من دلالات بالغة الأهمية ورسائل ذات مغزى عميق.

في قلب الحدث، جنود مدججون بالسلاح يقتحمون بصلف مكتبًا مرموقًا يحمل اسمًا لامعًا في سماء الإعلام العالمي، ويحاصرون صحفيًا متمكنًا يمسك بميكروفون، ينقل للعالم على الهواء مباشرة ما يجري، إنه الصحفي القدير وليد العمري، الذي صقلته تجارب الحياة تحت نير الاحتلال الإسرائيلي، وأتقن فن التعامل مع مختلف الظروف. واجههم بثبات أعصاب نادر، بينما يبلغونه بقرار إغلاق مكتب الجزيرة وإخلائه الفوري، ومصادرة أجهزته ومعداته التي يستخدمها فريق القناة الإخبارية لنقل تطورات المعركة المحتدمة بين الاحتلال وحزب الله، والتي شهدت قبل قليل إطلاق وابل من الصواريخ نحو مناطق شاسعة في شمال فلسطين المحتلة.

يثير الدهشة والاستغراب أن هذا المكتب يقع على بُعد يزيد على مائة وثلاثين كيلومترًا عن مسرح العمليات العسكرية، فكيف استأثر باهتمام هذا الحشد من الجنود والضباط، ومن ورائهم جموع غفيرة ملأت أرجاء المبنى، بالإضافة إلى قافلة من العربات المدرعة؟

وكيف تجرأت هذه القوات على اختراق مدينة رام الله، التي تصنفها اتفاقيات أوسلو كمنطقة "أ"، أي أنها تخضع للسيادة الإدارية والأمنية الفلسطينية الكاملة؟ صحيح أن الاتفاقيات تسمح بما يسمى "المطاردة الساخنة"، والتي بموجبها يمكن لقوات الاحتلال اقتحام المنطقة بعد التنسيق مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، إلا أن الاحتلال لا يتورع عن اقتحام أي بقعة في الضفة الغربية، متجاهلًا جميع الاتفاقيات والمواثيق الدولية.

تجدر الإشارة إلى أن العلاقة المتوترة بين الاحتلال وقناة الجزيرة لم تنشأ وليدة اللحظة، فقد سبق لحكومة نتنياهو أن اتخذت قرارات مشددة بمنع الجزيرة من العمل في إسرائيل، وإغلاق مكاتبها المعتمدة، ومنع طواقمها ومراسليها من تغطية الأحداث الجارية هناك منذ عدة أشهر مضت، وقامت بتمديد قرار الإغلاق مرارًا وتكرارًا.

من المؤكد أن اقتحام مكتب رام الله لم يكن بسبب أن موظفي الجزيرة يشكلون تهديدًا لقائد المنطقة العسكري المدجج بالجنود والمدرعات والكتائب، ولا يشكل مكتب الجزيرة خطرًا على من هم أعلى منه من القادة العسكريين، وصولًا إلى قائد الأركان أو وزير الدفاع، لينشغلوا في هذا الوقت المتأخر من الليل بإغلاق مكتب صغير في رام الله، وتنفيذ ذلك بعملية اجتياح عسكرية لا تستند إلى أي مبرر منطقي، والهدف منها هو توصيل ورقة مدون عليها قرار الإغلاق، أو إلصاقها في مكان بارز على المكتب، حسب نص القرار الذي لا يمنح الجزيرة الحق في الاعتراض إلا لدى صاحب القرار نفسه وخلال أسبوع واحد فقط.

إذًا، من هو ذلك الذي يزعجه وجود مراسلين محترفين، استطاعوا على مدار سنوات طويلة بناء شبكة واسعة من العلاقات للحصول على الأخبار والمعلومات ومقاطع الفيديو الحصرية، واستضافة المسؤولين والمحللين والخبراء، وبثها للعالم الذي هو في أمس الحاجة إليها، تمامًا كحاجته إلى الماء والهواء، في هذه المرحلة التاريخية الحساسة التي تكاد تنزلق إلى حرب إقليمية شاملة في أي لحظة؟

من المستحيل أن يكون لهذا القرار أي صلة بنوعية التغطية التي تقوم بها قناة الجزيرة، فلم يطرأ أي تغيير على شكل أو مضمون التغطية منذ بداية عملية "طوفان الأقصى"، بل استمر عمل القناة وفريقها بكل جد واجتهاد، مع التركيز على الأحداث والتطورات المتسارعة، وإلقاء المزيد من الضوء عليها من خلال التحليل العميق ووضعها في السياق الإخباري السليم، وهي خدمة جليلة تقدمها الجزيرة لجمهورها العربي والعالمي منذ تأسيسها قبل نحو ثلاثة عقود، وقد تبوأت مكانة مرموقة بين القنوات الإخبارية على مستوى العالم بفضل تميزها واحترافها.

إن نص القرار وطريقة تنفيذه يكشفان بوضوح عن تجاهل تام للواقع السياسي المحيط بالمكتب، وتجاهل وجود السلطة الفلسطينية، وأنها الجهة المخولة بمنح مكتب الجزيرة ترخيصه وحق العمل في رام الله وفقًا لقوانين السلطة وأنظمتها، كما يعطي القرار وطريقة تنفيذه مؤشرات قوية على اعتبار المكتب وكل الضفة الغربية منطقة خاضعة للاحتلال العسكري المباشر، وأن القائد العسكري للمنطقة وقّع القرار باعتباره قائدًا لما يسمى "يهودا والسامرة"، وهو ما ينسجم مع الخريطة التي عرضها بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية مؤخرًا، والتي اختفت منها الضفة الغربية بالكامل، وظهر مكانها هذا المصطلح المستحدث.

كما يتسق هذا الإجراء مع جميع الأنشطة العسكرية وغير العسكرية التي يقوم بها الاحتلال ليل نهار في جميع أنحاء الضفة الغربية، فضلًا عن تصريحات نتنياهو ووزرائه المتطرفين، وفي مقدمتهم بن غفير وسموتريتش، الرافضة لاتفاقية أوسلو والسلطة الفلسطينية، والداعية إلى ضرورة إنهاء وجودها، ورفض الدولة الفلسطينية وحل الدولتين بشكل قاطع.

هناك دافع خطير آخر وراء هذا الإجراء يجب الانتباه إليه، ألا وهو أنه قد يكون بداية لعملية ضم فعلي وإعادة احتلال عسكري تهويدي لكامل الضفة الغربية، وإنهاء لوجود السلطة الفلسطينية، ولا يرغب نتنياهو أن تقوم الجزيرة بتغطية هذه العمليات التي سيسحق خلالها الاحتلال جميع المواثيق والاتفاقيات، وكل مظاهر السلطة الإدارية أو الأمنية، وما يتبع ذلك من مجازر وجرائم حرب، مما قد يثير ردود فعل عالمية غاضبة، ويوفر مادة جديدة للمحاكم الدولية التي تستعد لإصدار مذكرات اتهام بحقه وبحق وزير دفاعه غالانت.

لا ننسى أن أحد قناصي الاحتلال قد قتل بدم بارد أيقونة الجزيرة في فلسطين، الشهيدة شيرين أبو عاقلة، في مخيم جنين بالضفة الغربية، كما قصف الاحتلال مقر الجزيرة في غزة ودمره بالكامل، وقتل المصور سامر أبو دقة، وحمزة وائل الدحدوح، ومن بعدهما المراسل الشاب إسماعيل الغول، وأصاب الصحفي الكبير وائل الدحدوح وعددًا كبيرًا من زملائه من طواقم الجزيرة وعائلاتهم، كما قتل الاحتلال ما يقرب من مائة وسبعين صحفيًا وإعلاميًا فلسطينيًا في قطاع غزة خلال العدوان المتواصل منذ عام تقريبًا.

من الواضح أن نتنياهو يفضل إسكات صوت الحقيقة بقتل الشاهد، لعله ينجو من الملاحقة القانونية والأخلاقية، ويتسنى له ممارسة أبشع صنوف التنكيل والإجرام بحق الشعب الفلسطيني: أطفاله ونسائه وشيوخه وشبابه ومدارسه ومساجده وكنائسه ومستشفياته ومؤسساته، تمامًا كما فعل في قطاع غزة المحاصر، وهو ما بثته الجزيرة وقنوات أخرى على الهواء مباشرة في كثير من الأحيان، وكشف للعالم الوجه القبيح لهذا الاحتلال الغاشم.

وبغض النظر عن السبب الحقيقي الذي دفع الاحتلال لاتخاذ قراره التعسفي بإغلاق مكتب الجزيرة، فقد سقطت ورقة التوت عن هذا الاحتلال ودولته التي طالما روجت لنفسها على مدى عقود بأنها واحة الديمقراطية أو الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وانكشف الستار عن دولة تمارس أبشع أنواع القمع للحريات، وتمنع وصول الحقيقة للعالم حول ما ترتكبه من جرائم بشكل ممنهج بحق شعب مضطهد يرزح تحت احتلال عسكري همجي بغيض منذ خمسة وسبعين عامًا.

لقد صمت العالم طويلًا عن حالة القمع المتواصلة والممارسات التي تصنف ضمن جرائم الإبادة والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية، بينما واصلت الجزيرة رسالتها النبيلة في أقسى الظروف وأحلكها، لنقل صور المعاناة الإنسانية الفلسطينية، ورواية حكاية الإنسان والزمان، وتقديم صورة ناصعة لإعلام عربي ودولي مهني ورصين وقادر على المواكبة والسبق ووضع الأحداث في سياق موضوعي سليم، بعيدًا عن التحيز والتضليل.

ولا يضير الجزيرة قرار الاحتلال بإغلاق مكتب جديد، فالجزيرة ليست مجرد مبنى أو مكان، بل هي رسالة سامية ينقلها صحفيوها الأبطال من كل مكان، مهما كانت الظروف قاسية والتحديات جمة، وستبقى الجزيرة شوكة في حلوق المجرمين، يزعجهم وجودها ويزعجهم صوتها الصادق، كما أزعجتهم صورة شيرين أبو عاقلة المنصوبة على مبنى الجزيرة، فسارعوا إلى تمزيقها في محاولة يائسة لإخماد صوت الحق.

ولكن تقع مسؤولية جسيمة على عاتق المؤسسات الإعلامية الدولية، التي يجب أن تكسر حاجز الصمت المطبق وترفع صوتها عاليًا، وأن تتخذ مواقف أكثر صرامة وحزمًا بحق الاحتلال، ومطالبته باحترام مواثيق العمل الإعلامي وحرية الصحافة وحماية الصحفيين، الذين يقومون بدورهم الإنساني والمهني في نقل الحقيقة للعالم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة